تحدثت المقالة السابقة عن الوعي البشريّ بكل ما يحمل من أفكار وآمال وذكريات، تتأجج معها مشاعر المحبة أو الألم، الوعي الذي يجدّ بعض البشر بأبحاثهم واختراعاتهم ليتحكموا فيه! ومشروع “دماغ جوجل” الذي ينادون أنه يهدُف إلى توظيف الذكاء الاصطناعيّ لخدمة البشر، وبخاصة المجالان العلمي والدراسيّ، ولتحدي صعوبات التعلم. واختتمت المقالة السابقة بسؤال يتردد في أذهان كثيرين عن هٰذا الصراع المتأجج: هل يصبح سعيًا نحو الحياة؟ أم انهيارًا يؤدي إلى الهلاك؟!
نعم، ما يشهده العالم اليوم هو صراع: “صراع جديد قديم”! جديد في ثوبه، قديم في أهدافه. صراع طالما سعى فيه بعض البشر لامتلاك القوة والسيطرة، إلا أن ملامحه تتبدل حينًا وآخر. ففي القديم، كان الصراع سعيًا لامتلاك الثروات، وشهد العالم مآسي تخجل أن تمحوها ذاكرة التاريخ في جميع أنحاء العالم؛ إذ حاول أُناس التحكم في إخوتهم من الإنسانية باستعبادهم، كما حدث للأفارقة حين سُرقوا من بلادهم ليصبحوا عبيدًا، واحتلت بلاد أوروبية دُولاً سعيًا للقوة والثروات. وما إن أُسدل الستار على تلك الحقبة، حتى تبدل ثوب السلطة في انتزاع حرية البشر في التفكير والاختيار، وتمثلت الذروة فيما قدمته الشيوعية من أفكار تحاول انتزاع الله من حياة البشر بإجبارهم على رفض وجوده، وإلا موتهم!! صراع خِيضت فيه حروب دمرت بلادًا بأكملها، وانتُزعت حياة ملايين من الأبرياء.
وتبدل الثوب مجددًا في سعي للسيطرة على الشر بواسطة التطور التقنيّ الذي شهِدته العقود الماضية، فكان الطريق الذي بدأ (وما يزال) هو التحكم في عقول البشر بنقل الشائعات وبلبة الأفكار، متسببًا فيما أُطلق عليه “ثورات الربيع العربي”؛ حيث اتُّبعت أساليب أخرى في وسائل التواصل الاجتماعيّ وغيرها؛ للسيطرة على فكر البشر وتوجيههم نحو أهداف تبدو كأنها الحرية، وهي كانت طرقًا إلى التفكك والضعف والانهيار! وهذا ما آلت إليه بلدان تحاول الآن أن تتلمس طريقها السويّ نحو البقاء على قيد الحياة.
واليوم، نرى تطورات مذهلة يشهدها العالم من شرائح متحكمة، تتعامل بأسلوب فائق مع المخ البشري وما حوله من أشياء (مثلما أشرت بمقالات سابقة)؛ بهدف أن تصبح الحياة أيسر وأفضل؛ إلا أنها في الوقت نفسه جرس إنذار مبكر، فقد وصلني تعليقًا من أحد رؤساء الجامعات الأفاضل كتب فيه: “فمن يدرينا يُدرينا أن متحكمي هٰذه الشرائح لن يحوّلوا البشر مُسوخًا آدمية متطابقة تخضع لما يطرحونه من أفكار!! ولا يُستبعد إعداد جيوش جبارة تتحرك بلا وعي، نحو مكان ما أو عدد من الأماكن من أجل تدميرها، أو تحقيق مهمة ما على أفضل تقدير”. إنه جرس إنذار حقيقي إلى كل إنسان في العالم وعلى وجه الخصوص جميع قادة العالم. إذ قد يصبح الإنسان مسلوب الإرادة نهائيًّا مما سيجعله يفقد آدميته بعد تركيب الشريحة أو الشريحتين بل سوف يصبح آلة في جسم حيّ فاقدًا كل معاني الإنسانية التي خلقنا الله عليها.
إنني أضع هٰذه الأمور نصب أعين الجميع، بعد أن صرنا اليوم في أمس الحاجة إلى الحكمة التي تميز بين الشر وشبه الشر والخير، لا حكمة هٰذا العالم، بل الحكمة التي يهبها الله لنا، ولا سبيل لنا إليها إلا بالصلاة والتضرع إليه، فكما ذكر في المسيحية: “وإنما إن كان أحدكم تُعوِزه حكمة، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يُعَيِّر، فسيُعطَى له.”. وأيضًا في الإسلام: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ”. وعلينا في هٰذه الآونة الصعبة أن نتمسك بالله سبيل النجاة الوحيد؛ وهٰذا ما أخبرنا عنه السيد المسيح: “قد كلمتكم بهٰذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولٰكن ثِقوا: أنا قد غلبت العالم.”. و… وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ