تحدثت المقالة السابقة بفكرة: “التعايش معًا”، وكيف أنه مِفتاح الاستقرار والنجاح والازدهار، فـ”معًا” تنشأ القوة وتدوم، ويتحقق التميز وسرعة الإنجاز. وإن كان “قَبول التنوع” وقدرة “التعايش معًا” يقودان إلى سلام المجتمع وتقدمه، فإنهما لن يتحققا إلا بمبدإِ “احترام كل منا للآخر”. إن “التعايش باحترام” لَمن أهم قواعد المعايشة بين أفراد المجتمع، وهو سر رقيّ المجتمعات وسموها، فلا تقدم لها إلا بأن تغرس في أبنائها جميع معاني النبل والأصالة والاحترام. وجميعنا يُدرك جيدًا أن الاحترام يُعد إحدى حاجات الإنسان النفسية الأساسية، كاحتياج الهواء والماء والطعام.
وفي إطلالة لغوية سريعة، نجد أن لفظة “احترام” اسم مشتق من الفعل “احترمَ”، و”احترام الذات”: يعني احترام النفس والشعور بالكرامة، و”جدير بالاحترام”: أي جدير بالتقدير والاعتبار. أمّا تعبير “يكنّ له كل احترام” فمعناه أنه يوقره ويُجلّه.
وفي أساسنا الإنسانيّ، يجب أن يحترم بعضنا بعضًا؛ لأن جميعنا يحمل السمات الإنسانية نفسها التي خلقنا الله وفطرنا عليها. فالله خلقنا جميعنا بشرًا، نملك مشاعر إنسانية راقية، حَرِيّ بها أن توجَّه إلى جميع البشر؛ ومن ثَم نُدرك أن احترام كل منا للآخر هو احترام لعمل الله في خليقته بغض النظر عن اختلافاتهم. يقولون: “عندما لا تشعر بمن حولك ممن جرحتهم، ولا تهتم بأحاسيسهم، ولا تبالي بمشاعرهم، فاعلم أنك فاقد بعض الأدب والأخلاق والاحترام.”؛ كما قيل: “إذا سقط الاحترام سقط معه كل شيء”. فأية عَلاقة إنسانية دون احترام هي عَلاقة غير سوية: فالمحبة بلا احترام بعيدة كل البعد عن معنى المحبة، وصداقة بغير احترام فقدت معنى الصداقة، حتى القرابة التي لا تحمل احترامًا تخرج عن إنسانيتها ولا معنى لها.
والاحترام دليل على الإيمان وحسن الخلق والأدب؛ وهٰذا ما عبّرت عنه الأديان وحثت عليه، فـ”المَسيحية” تأمر بتمسك الإنسان بالأدب: “تَمَسَّكْ بِٱلْأَدَبِ، لاَ تَرْخِهِ، ٱِحْفَظْهُ فَإِنَّهُ هُوَ حَيَاتُكَ.”، وبأن يرغب فيه من عمق قلبه: “وَجِّهْ قَلْبَكَ إِلَى ٱلْأَدَبِ، وَأُذُنَيْكَ إِلَى كَلِمَاتِ ٱلْمَعْرِفَةِ.”، وبالسعي نحو اقتنائه: “ٱِقْتَنِ ٱلْحَقَّ وَلاَ تَبِعْهُ، وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلْأَدَبَ وَٱلْفَهْمَ.” وقد قال السيد المسيح عن عقوبة عدم احترام الآخرين: “وَمَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.”. و”الإسلام” ينبه إلى أثر فظاظة القلب ويطلب البعد عنها: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ﴾، ويحض على الكلام الطيب والأسلوب الليّن في المحادثات والمعاملات: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، ويلفت إلى أن من الإيمان مخاطبة الشخص بالأسلوب الذي يحب أن يخاطَب هو به، ففي الحديث: “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ”، وأن من علامات التَّحابّ والاحترام إفشاء السلام بين البشر: “أَفْشُوا ٱلسَّلاَمَ بَيْنَكُمْ”، وهٰكذا نجد ارتباطًا كبيرًا بين السلام واحترام الآخرين.
ويخطئ بعض الناس حين يظنون أن الاحترام علامة ضعف أو احتياج!! والحقيقة إن قدرة الإنسان في معاملة الناس باحترام تؤكد حقيقة إنسانيته، وتظهر أنه ذو مبادئ وخلق. وصدقت العبارة التي تقول: “الاحترام هو أجمل أثر يتركه الإنسان في قلوب الآخرين”. أتذكر كلمات مثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”: “احترمْ غيرك، يحترمْك غيرك.
احترمْ غيرك، احترامًا لإنسانيته، أيًّا كان سِنّه، وأيًّا كان مركزه ووضعه في المجتمع؛ فهو مثلك: إنسان … احترامك للناس يكسبك محبتهم، ولا يفقدك مهابتك.”.
إن الاحترام من الأخلاق الأساسية للإنسان، وعلامة رفعته، وأهم ما يميزه عن غيره من المخلوقات الأخرى. والاحترام تجاه كل إنسان؛ فلا يقتصر على بعض الأشخاص في المجتمع دون غيرهم، وأن يكون بين فئات المجتمع كافة بعضها نحو بعض بتقدير وإجلال. ومن أجل التعايش باحترام: يجب تأكيد مفهوم الأمة الواحدة، ومعاني الإنسانية، ومعنى الحرية الصحيح. و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ