تحدثت المقالة السابقة عن أحد أهم قواعد السلام المجتمعيّ: “التعايش باحترام”. وفي عمق الاحترام، نرى سمات الإنسانية التي خُلقنا عليها، ما يجعل أية عَلاقة إنسانية خالية منه غير سوية. وقد أكدت وصايا الأديان أهمية تمسك الإنسان بالاحترام نحو الآخرين.
ومن أهم أسس السلام التي لا تقوم من دونها المجتمعات: “العدل”؛ فقد قيل إنه “قوة الأمة”، كما قال “تشرشل” إن غيابه علامة ضعف الأمم: “أجمعَ تاريخ البشرية على حقيقة أن الأمم لا تكون عادلة دائمًا عندما تكون قوية. وعندما تتمنى تلك الأمم العدل، فهٰذا يعني أنها لم تعُد قوية.”. كذٰلك ارتبط العدل بالفضائل؛ إذ قيل إنه يحويها جميعًا: “العدالة تشتمل على كل الفضائل”. والعدل هو سر قوة الإنسان؛ فقد ذكر “الإسكندر الأكبر”: “ينبغي لمن تمسَّك بالعدل ألا يخاف أحدًا.”. وهٰكذا تكمن قوة الأمم والملوك: في العدل والعادلين. وما من شك أن أيّ نظام اجتماعيّ ناجح يثبَّت على العدل؛ فيقول “الكتاب”: “أَزِلِ ٱلشِّرِّيرَ مِنْ قُدَّامِ ٱلْمَلِكِ، فَيُثَبَّتَ كُرْسِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ.”.
والعدل من صفات الله؛ إذ هو – تبارك اسمه – عادل ويحب العدل، وحين خلق الإنسان وضع فيه صفة “العدل”، ومن ثَم طالب البشر أن يسلكوا بالعدل، فيقول “الكتاب”: “وَأَمَرْتُ قُضَاتَكُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ قَائِلاً: ٱِسْمَعُوا بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ وَٱقْضُوا بِٱلْحَقِّ بَيْنَ ٱلْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ وَنَزِيلِهِ. لَا تَنْظُرُوا إِلَى ٱلْوُجُوهِ فِي ٱلْقَضَاءِ. لِلصَّغِيرِ كَالْكَبِيرِ تَسْمَعُونَ. لَا تَهَابُوا وَجْهَ إِنْسَانٍ لِأَنَّ ٱلْقَضَاءَ للهِ.”. وأوصى الله الإنسان أن يكون محاميًا بالعدل عن المساكين: “ٱِفْتَحْ فَمَكَ. ٱِقْضِ بِٱلْعَدْلِ وَحَامِ عَنِ ٱلْفَقِيرِ وَٱلْمِسْكِينِ.”. والله لا يقبل الظلم أو المحاباة: “وَٱلْآنَ لِتَكُنْ هَيْبَةُ ٱلرَّبِّ عَلَيْكُمُ. ٱِحْذَرُوا وَٱِفْعَلُوا. لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا ظُلْمٌ وَلاَ مُحَابَاةٌ وَلاَ ٱرْتِشَاءٌ.”.
ويوصي “القرآن”: ﴿إنَّ ٱللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، وأيضًا أوصى الله بالعدل والإحسان: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. وينبه الحديث: “«يَا عِبَادِي: إنِّي حَرَّمْت ٱلظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا …».”.
وحين يعدل الإنسان تجاه غيره، فإنه إنما يعترف به في المجتمع وبحقوقه ويحترمها، لأنه يوقن أن الآخر دائمًا بالنسبة إليه هو شخص مساوٍ له في الكرامة الإنسانية، ولكل أفراد المجتمع الحقوق نفسها وعليهم الواجبات عينها، وأن على الجميع – كما ذكرنا سابقًا – أن يحترموا حريات الآخرين. ورُب إنسان عادل في أحكامه، لكنه متى اختلف تحول اختلافه إلى خلاف، ويتخلى عن عدله، متذرعًا لنفسه بالمبررات أمام مخالفيه! وهٰذا مرفوض من الأديان؛ فإن كان بينك وبين أحد خلاف أو عداوة ولا تستطيع أن تُزيلهما بعدُ، فعلى الأقل لا تَزيدهما سوءًا بإطاعة ما بك من ضغينة نحوه فتضحى ظلما!! بل كما يقول “الكتاب”: “إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَٱسْقِهِ.”، فإن كان “الكتاب” يدعو إلى عمل الخير تجاه الأعداء، أفنظلم من يخالفوننا؟!! وأيضًا يذكر “القرآن”: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. إن اختلافك أو خلافك مع الآخرين لا يبرر ظلمك إياهم! والعدل لكل إنسان؛ فيذكر الإمام “عليّ بن أبي طالب”: “عَلَيكَ بِٱلْعَدْلِ فِي ٱلصَّدِيقِ وَٱلْعَدُوِّ”. ومن نماذج العدل التاريخية الشهيرة الخليفة “عمر بن الخطاب”، الذي بات عدله مضرِب الأمثال، و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ