بدأنا ومضات من حياة القديس “البابا كيرِلُّس”، أبرزها محبته الشديدة لله؛ فترك العالم راهبًا، ثم متوحدًا في حياة ملؤها الله، تفيض بتعزيات السماء، وصلاة دائمة شهِد لها الجميع. وفي محبته للصلاة، شُغف بحياة الوَحدة، متتلمذًا على كتابات “القديس مار إسحاق السريانيّ” عنها حين نسخها؛ فتشبع بجوهرها: “الانسلاخ من الكل للارتباط بالواحد”. وفي حياة الصلاة، لم ينشغل عقله إلا بالله والتسبيح؛ فقد ذُكر أنه حين استُئصلت له الزائدة الدودية لم يكُن يردد سوى صلوات المزامير والتسابيح، وهو لم يُفِق من أثر المخدر بعد!!
أما رعايته لشعبه، فكانت إحدى ومضات حياته التي عاش كثيرون بها وأنارت الطريق لهم حتى اليوم. ومع رفضه الترشح للبطريركية بشدة، فإن “أنبا أثناسيوس” المتنيح قدم تزكية باسمه، وحين علِم قداسته بذٰلك شدد على أبنائه ومحبيه ألا يسعَوا لعمل أيّ نوع من الدعاية التي تسبق الانتخابات البطريركية. وحين اختارته العناية الإلٰهية ليصير خليفة “القديس مار مرقس الرسول”، لم يجد سوى سكب الدُّموع الغزيرة أمام الله كي يعينه على المسؤولية الجسيمة. وفي رعايته، لم ينسَ حياة الرهبنة والوحدة؛ فقد كان كثيرًا ما يذهب إلى “دير الشهيد العظيم مار مينا العجائبي” بمريوط، إلى جانب الخدمة ووجوده بين أبناء شعبه يرعاهم ويهتم بهم؛ وفي هٰذا يذكر مثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”: “لقد أعطانا مثلاً كبيرًا في حياة التأمل والخدمة، مع أن جمعهما ليس بالأمر الهين السهل، فقد كان يخدُِم الكنيسة بأقصى ما يستطيع، ومن جهة أخرى يختلي بنفسه ويأخذ من التأمل والوَحدة على قدر ما تعطيه إمكاناته.”.
ويُعد تاريخ العاشر من مايو 1959م في حياة الكنيسة القبطية بدءًا لعصر النهضة الكنسية في العصر الحديث؛ فقد اتسم عهد القديس “البابا كيرلس السادس” بأنه عهد التقاء الأب البطريرك وشعبه دون وسائط أو حاشية؛ إذ أمكن أي إنسان مهما كان أن يلتقي أباه البطريرك، ويتحدث إليه مباشرة عن احتياجاته أو مشكلاته. لقد أحبه الجميع، وأتَوا إليه آلافًا، يطلبون بركته وصلواته؛ حتى قيل فيه: “كان أول بابا في جيلنا الحاضر فتح بابه لكل إنسان؛ كل فرد كان يستطيع أن يجلس إليه ويكلمه بلا مانع ولا عائق. وهٰكذا استطاع بشعبيته وبمقابلته لكل واحد أن يقضي على فكرة حاشية البطريرك، لأن كل إنسان يستطيع أن يعطيه المعلومات اللازمة في أذنه مباشرة، فيعرف حقائق الأمور بطريق مباشر، لا بطريق آخر. لذٰلك كان يعرف تفاصيل التفاصيل في كنيستنا المقدسة.”. وهٰكذا أزال بأبوته ما عانته الكنيسة من أفعال شائنة للحاشية، ومنها ما عُرف باسم “السيمونية”: أي سيامة الآباء الكهنة بمقابل ماديّ. وعلى طريق الإصلاح، أصدر قداسته أوامره بعودة الرهبان إلى أديرتهم، وقد التزم الجميع بالخضوع لأمره.
وفي قيادته للكنيسة القبطية، كان يضع جميع مشكلاتها واحتياجاتها أمام الله؛ فيقول “البابا شنوده الثالث”: “كان كثير الصلوات حتى في أثناء وجوده وكلامه مع الناس؛ لذٰلك كان صَموتًا لا يتكلم كثيرًا، لكي يعطي نفسه فرصة التأمل والصلاة، وكان أيضًا يعهد إلى الله بمشكلاته … ويرى أن القداسات والصلوات هي التي تحُل له المشكلات، لا المجهودات البشرية. وكلما أحاطت به الضيقات، لجأ إلى الوَحدة والصلوات والقداسات، شاعرًا أن معونة الله أكبر من كل معونة بشرية.”. لقد كانت قيادته مؤسَّسة على الصوم والصلاة وطلب معونة الله؛ فصار عهده سلاما وبركات. وصدقت كلمات مثلث الرحمات “أنبا مينا آڤا مينا”: “لم يكُن «البابا كيرلس» حلقة مشرقة في تاريخ الكنيسة فحسب … لٰكن كان – وما زال – مدرسة كبرى، لها فلسفتها الكنسية والروحية، تظل إلى أجيال كثيرة قادمة مشرقة لعمق الروحانية وحياة الصلاة.”. و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ