جرى الحديث بمقالات سابقة عن “البابا كِيرِلُّس الثاني”، ولقائه الخليفة “المستنصر” وأمير الجيوش، وقصة ملك النوبة “سُلُمون” التارك مُلكه من أجل العبادة والتنسك قرب “أُسوان”، وانتقاله إلى “القاهرة” حيث تنيح ودُفن بـ”دير الخندق”.
وعلى الرغم مما نعِمت به “مِصر” من سلام في عهد “البابا كِيرِلُّس الثاني”، فإن عدة أتعاب قد ألمَّت به؛ فقد قدّم بعض الأساقفة شكاوى على قداسته إلى أمير الجيوش، مستخدمين خولي بساتينه القبطي، ويُدعى “يسيب”، متهمين البابا بكثير من الأمور بحسب ما اتفقوا هم و”يسيب”!! ويذكر القَسّ “مَنَسَّى يوحنا”: “فلما اطلع أمير الجيوش على التقرير، رأى أنه ليس من شأنه أن يحكم في أمر مثل هٰذا من تِلقاء نفسه بمجرد أقوالهم. فأمر البطريرك بعقد مجمع من أساقفة الوجهين القبليّ والبحٰريّ، وكبار الأمة، يرأسه أمير الجيوش؛ ليبحثوا في الأمور المنسوبة إليه على البطريرك ليعرف عما إذا كانت صحيحة أم غير صحيحة.”. فاجتمع ٤٧ أسقفًا لدى أمير الجيوش فأخذهم إلى بستانه الكبير بظاهر القاهرة. ثم قُدمت الدعاوى على الأب البطريرك؛ ففندها البابا ورد عليها جميعها، مقنعًا الكل ببراءته مما نُسب إليه كافةً، وبخاصة أمير الجيوش الذي ما كان منه إلا أن تحدث بشدة إلى المُدّعين على البابا، ذاكرًا لهم أنهم يجب أن يكونوا أمثلة وقدوات للرعية. ثم أكرم أمير الجيوش “البابا كيرلس” وعظّم شأنه، وطلب من الأساقفة أن يكتُبوا له قوانين الكنائس والأديرة. أما “يسيب”، فقد شرع في الاتفاق مع مقاومي “البابا كيرلس الثاني”. وذات يوم، حدثت مُشادة بين “يسيب” وبين أحد تلاميذ الأب البطريرك، سمِعها البابا فتحدث إلى “يسيب” في لطف، لٰكنه لم يرتدع بل ازداد تطاولاً!! فقال له “البابا كيرلس الثاني”: “يا «يسيب»، إذا كان لك سلطان الأرض، فالمسيح سلطان السماء والأرض معي.” إلا أنه ازداد تعنتَا. وحدث بعد تلك الأحداث أن غضب أمير الجيوش على “يسيب”حتى إنه أمر بقطع رقبته.
وبعد قرابة عشرين يومًا، استدعى أمير الجيوش الأساقفة؛ حيث يذكر كاتب سيرة الأب البطريرك أن أمير الجيوش: “خاطبهم بكلام جميل، وأكرمهم، وقال لهم: كونوا كلكم شرعًا واحدًا، ولا تختلفوا، وطيعوا مقدمكم، وكونوا مثله، ولا تكنُزوا فِضة ولا ذهبًا. وصدِّقوا بكل ما يحصل لكم كما أوصاكم المسيح، وهٰذه القوانين التي عمِلتموها ما أحتاج إليها، وإنما طلبتُها منكم ليتجدد عندكم أنتم علمها ..”.
ويُذكر أنه في أحد الأعوام، أرسل “أنبا ساويرس” مِطران الحبشة هدية إلى أمير الجيوش لم تنَل رضاه؛ فأرسل إلى “البابا كيرلس الثاني” يستدعيه؛ فحضر البابا ومعه عشَرة أساقفة، وعند وصولهم وجدوا شقيق مِطران الحبشة عند أمير الجيوش، وأخذ يعنفهم تعنيفًا شديدًا!! ثم طلب إرسال أسقفين إلى الحبشة: من أجل أن يُرسل مِطران الحبشة ضريبة ٥٠ سنة، ويبني المساجد هناك، ويحذر الأحباش من مغبة التربص بالتجار المسلمين وبغيرهم في طرقهم؛ وإلى أن تنفذ أوامره تلك بتمامها، أمر بسجن شقيق مِطران الحبشة رهينةً، وبفرض دينارين كل يوم يمر على الأساقفة دون تنفيذ الأوامر. ووقع الاختيار على “أنبا مَرقس” أسقف أوسيم والجيزة، و”أنبا تادرس” أسقف سنجار لحمل رسائل أمير الجيوش إلى مِطران الحبشة. لٰكن في تلك الأثناء، أرسل ملك النوبة هدية فاخرة إلى أمير الجيوش مع ابن الملك السابق، طالبًا منه أن يكلف “البابا كيرلس الثاني” برسامته أسقفًا، فاستدعى أمير الجيوش الأب البطريرك والآباء الأساقفة ثانيةً، وأكرمهم جميعًا، ومعهم شقيق “أنبا ساويرس” مِطران الحبشة من السجن، بعد أن عرَف حقيقة أن “أنبا ساويرس” كان قد بنى سبعة مساجد لٰكن الأحباش هدّموها؛ ثم أمر بمسير الأسقفين إلى الحبشة ومعهما الرسائل منه إلى ملك الحبشة. و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ