تحدثنا فى المقالة السابقة عن الاضطهاد الذى تعرض له البابا «آثناسيوس» (الـعِشرون فى بطاركة الإسكندرية) الذى أبعد عن كرسيّه عدة مرات فى أيام «قُسطَنطِيوس الثانى» و«چوليان» المرتد، ولم يَنعَم بالهدوء والراحة إلا بضعة أشهر فى أثناء حكم «چوفيان». ثم عرضنا لحكم الإمبراطور «ڤالِنتنيان الأول» الذى لم يدخل فى الصراعات الدينية فى الغرب. ثم بدأنا الحديث عن أخيه «ڤالِنس» الذى حكم الشرق.
سياسة «ڤالِنس» الداخلية
ولم يكُن «ڤالنس» متسامحًا دينيًّا مثل أخيه فى الغرب، فقد تبِع الأريوسيِّين واضطهد الكنيسة الأرثوذكسية فى الشرق شر اضطهاد، حتى قيل إن بعض الأساقفة اختفَوا، فى حين قُتل كثير من شعب الكنيسة رجالًا ونساءً. وقد عانت بالأخص الكنيسة المِصرية بالإسكندرية شدائد عظيمة وقت حكمه، فى الوقت الذى لم يدخل الإمبراطور كثيرًا فى شؤون الوثنيِّين الدينية.
فما إن تسلم «ڤالِنس» حكم الشرق حتى أمر بإعادة نفى الأساقفة الأُرثوذكسيِّين الذين نفاهم الإمبراطور «قُسطَنطِيوس الثانى» ثم عادوا بسماح من الإمبراطور «چوليان». وقد اعتبر والى مِصر «بلاديوس» أن البابا «آثناسيوس» يقع تحت طائلة هذا القرار، فسعى إلى نفى البابا بعيدًا عن كرسيّه. وما إن علِم الشعب بنية الوالى ورغبته فى إبعاد بطريركهم حتى رفض طاعته معللين الرفض بأن البابا «آثناسيوس» قد عاد إلى كرسيّه بأمر من الإمبراطور «چوفيان» لا «چوليان».
إلا أن الوالى لم يُقنع بالسبب الذى أبداه الشعب، ولكنه أدرك فى الوقت نفسه أنه لا قدرة لديه على التصدى لهذا الشعب الثائر من أجل البابا «آثناسيوس»، فقرر التحايل عليه. فأبدى الوالى موافقته واقتناعه بكلمات الشعب، وهو يتحين الفرصة للقبض على البابا ونفيه. وذات يوم علِم البابا أن الوالى يسعى للقبض عليه فهرب.
وفى أثناء تلك المدة، شهِدت مِصر كثيرًا من الاضطرابات، حتى إن الوالى أرسل برسالة إلى الإمبراطور «ڤالِنس» يقول فيها: «إنه لا يسكَّن هياج القوم إلا بوجود بطريركهم بينهم». وعندما وصلت الرسالة الإمبراطور خشىَ وصول أخبار تلك الاضطرابات لأخيه «ڤالِنتينيان الأول» مما قد يُثير عليه غضبه، فأمر بعودة البابا إلى كرسيّه.
وقد استمر على كرسيّه حتى تنيح، وتولى من بعده البابا «بطرس الثانى» رئاسة كرسى مار مرقس.
وقد نال البابا «آثناسيوس» ـ بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ـ إعجاب الغرب حتى إن أحد شعرائهم نظَم فيه
قصيدة سماها «القيثارة الرسولية» قال فيها:
آثناسيوسُ العظيمُ قلبٌ
أضحى مليكَ القلوبِ طُرًّا
مِن بُولُسَ زانَــــــــــهُ رداءٌ
فازدادَ قُدْســــــــــًا ونالَ بِرًّا
كذٰلك فهم أرادوا نقل رُفاته إليهم، فنُقلت إلى القُسطَنطِينية، فالبندقية، ثم فرنسا ومن بعدها إسبانيا. وقد أعاد
قداسة البابا شنوده الثالث رُفات البابا «آثناسيوس» إلى مِصر عام 1973م.
«ڤالنس» يضطهد البابا «بطرس الثانى»
ما إن صار البابا «بطرس الثانى» بطريركًا للكرسىّ المَرقسى عام 373م، حتى ساء الإمبراطورَ «ڤالنس» اختيارُ المِصريِّين بطريركًا لهم حسب إرادتهم، فقرر الانتقام من المسيحيِّين المِصريِّين باضطهاد بابا الإسكندرية وإبعاده عن كرسيّه.
وكان فى ذاك الوقت رجل مِصرىّ يُدعى «لُوسيوس» حصَل على الأسقفية من خارج مِصر بطريق غير قانونى، ولٰكنه لاتِّباعه الأريوسية قام الإمبراطور بتعيينه بطريركًا بدل البابا «بطرس الثانى». وقد أرسل أوامره إلى «بلاديوس» والى مِصر بنفى البابا وتسليم مركزه إلى «لوسيوس» هذا؛ مرسَلًا معه عدد غفير من القوات الرومانية للتنفيذ. وما إن وصلوا مصر حتى قاموا بالهجوم على الكنيسة التى بها البابا بطرس، ولكنه هرب، ثم سافر إلى روما وقضَّى فيها خمس سنوات.
وفى أثناء تلك المدة، رفض المصريُّون المسيحيُّون أن يكون لهم بديل من بطريركهم. وإذ كان يُعَد رفضهم هذا مخالفة لأوامر الإمبراطور، نالوا شدائد كثيرة على أيدى: الوالى، و«لوسيوس»، والجنود الرومان. ومن بعض الشدائد التى طالت الشعب: أنهم ذات مرة قاموا باستدعاء رؤساء الكهنة طالبين منهم الخضوع لأمر الإمبراطور، وعندما رفضوا الإذعان لأى أوامر تُخالف إيمانهم، وضعوهم فى سفينة قديمة وتركوهم فى عرض البحر، فمات بعضهم ونجا من قذفته الأمواج على الشطآن. كذلك نفى الوالى «بلاديوس» أحَد عشَر أسقفًا بعد فشل محاولاته معهم فى قبول طاعة أوامر الإمبراطور. وقد ذُكرت فى تاريخ الكنيسة قصة أنبا «ميلاس» أحد الأساقفة الذين صدر أمر بنفيهم، فإنه حين وصله نُواب الوالى للقبض عليه وتنفيذ النفى، كان يقوم بتنظيف قناديل الكنيسة، فقابلوه ولم يعرفوه لاتضاع منظره. وعندما سألوه عن الأسقف، أخذهم إلى دار الأسقفية حيث أعد لهم وليمة فاخرة، وبعدها أعلمهم بأنه الشخص المطلوب. فعرضوا عليه الفِرار والنجاة بحياته لكنه أبى معربًا عن عدم خَشيته الموت، وذهب معهم. كذلك حاولوا أيضًا التأثير فى الرهبان فى كل دَير ولكنهم أبَوا الخضوع لأى أوامر تخالف إيمانهم.
وكان الشعب فى أثناء ابتعاد البابا «بطرس الثانى» عن كرسيّه يجتمع للصلاة فى الصحراء رفضًا للبطريرك الدخيل. فلما علِم الإمبراطور «ڤالنس» أرسل الوالى «مودِستوس» ـ حامل لقب كونت المشرق ـ بأمر لتفريق تلك الاجتماعات، وقتْل كل من يصلى فى البرية. وعلى عدم محبة «مودِستوس» للمسيحيّين الأُرثوذكسيّين، إلا أنه قام بتحذيرهم من الذهاب إلى الصلاة فى اليوم التالى، رغبةً منه فى عدم استخدام العنف. وما كان من الشعب الأبى المؤمن بعقيدته إلا أن أصر على الذهاب إلى الصلاة بأعداد تفوق الوصف دون أن يَهاب الموت. وتذكر إحدى القَصص أنه خلال ذهاب الوالى بجنوده إلى مكان الصلاة، التقَوا امرأة بسيطة تخرج من دارها مسرعة نحو المكان نفسه وهى تحمل طفلًا رضيعًا. وعندما عرف الوالى وِجهتها، حذرها من الذهاب لئلا تموت.
فما كان منها إلا أن أسرعت قائلة له إنها من أجل هذا خرجت لئلا تفوتها والطفل فرصة الاستشهاد! وتعجب «مودِستوس» من بسالة المرأة، وقرر العودة إلى البلاط الملكى، وأقنع «ڤالنس» بالتراجع موضحًا أن اضطهاد المصريِّين المؤمنين لن يعود عليه بأى فائدة، بل على النقيض هو يقويهم ويثبتهم بالأكثر، ويَزيدهم شجاعة ومحبة.
وظل المِصريُّون المسيحيُّون متمسكين بمطالبتهم بعودة البابا «بطرس الثانى» حتى قاموا بعزل «لُوسيس» الدخيل وطردوه خارج الإسكندرية، وأعادوا بطريركهم. وكان «ڤالنس» آنذاك منشغلًا بحروبه فلم يُلقِ إلى أمر «لُوسيوس» بالًا، وبعد قليل مات فى الحرب. وقد حدث فى عهده اضطراب شديد فى مدينة الإسكندرية، تعدى فيه الوثنيُّون على «كنيسة سيزاريوم» مشعلين فيها النيران عام 366م.
بداية التقسيم
ويرى المؤرخون أن البداية الحقيقية لانفصال الإمبراطورية الرومانية إلى جزأين شرقىّ وغربىّ تعود إلى التقسيم الذى حدث بين «ڤالِنتينيان الأول» وأخيه «ڤالِنس». ففى العهود السابقة على هذا كان هناك تقسيم إدارىّ، إلا أن الاتحاد بينهما كان يعود تدريجيًّا. أمّا هذا التقسيم بين الأخوين فكان شاملًا. ومع أن اتحاد الإمبراطورية كان مرة أخرى تحت حكم الإمبراطور «ثيؤدوسيوس»، إلا أن ذاك الاتحاد كان قصيرًا، لذا اعتبر المؤرخون هذا التقسيم بداية انفصال الإمبراطورية الرومانية الشرقية التى لقبت بالبيزنطية، والإمبراطورية الرومانية الغربية.
جراتيان (375 ـ 383م)
بدأ «جراتيان» ممارسة الحكم مع والده من 364 حتى 375م. ومن 364 حتى 378م شارك عمه «ڤالِنس» الحكم. وقد ملك «جراتيان» على المملكة الغربية بعد موت «ڤالِنتينيان الأول»، وكان آنذاك فى السابعة عشرة. وقد عيَّن أخاه الأصغر «ڤالِنتينيان الثاني» حاكمًا مشاركًا مع صغر سنه، فكان يحكم هو بلاد الغال وبريطانيا وإسبانيا، فى حين ترك لأخيه حكم اللِّيريكون وأفريقيا وإيطاليا.
استكمل «جراتيان» حروب أبيه ضد القبائل الجرمانية، وتأمين مقاطعات وحدود المملكة. وعندما طلب عمه «ڤالِنس» أن يُسرع إلى نجدته فى حربه ذهب إليه، إلا أنه وصل متأخرًا جدًّا بعد هزيمة عمه وموته. وقد ازدادت قوة البرابرة فى الإمبراطورية فى أيامه، حتى إن المؤرخين يذكرون اسمه فى قائمة الأباطرة الذين ساهموا فى سقوط روما.
وبعد مقتل عمه عام 379م، عيَّن «جراتيان» فى حكم الشرق «ثيؤدوسيوس» ولقَّبه «أُغسطس المشرق»، فحكم مقاطعات: البَلقان، وآسيا، ومِصر، وإيبارشيات داسيا ومقدونية. وقد كان اختيار «ثيؤدوسيوس» اختيارًا حسنًا للرومانيِّين والمسيحيِّين، فقد كان قائدًا مِقدامًا وشجاعًا يتسم بالبسالة فى الحروب. وكان يحب الديانة المسيحية ويُجِلّها ويغار عليها. وقد صد أعداء الامبراطورية فى الشرق وأمّن البلاد. و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا
ينتهى…!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ