تحدثنا فى المقالة السابقة عن بداية حكم الإمبراطور «أركاديوس قيصر» للإمبراطورية الرومانية فى الشرق بعد وفاة أبيه الإمبراطور «ثيئودوسيوس» الكبير، وأن «أركاديوس» كان مكروهاً من شعبه لعدم حكمته وضعف شخصيته فى إدارة شؤون البلاد، تاركاً أمور البلاد فى يد «رُوفينيوس» الحاكم الإمبراطورى فى المشرق الذى اغتيل هو وجميع أعوانه خلال تفقده قوات الجيش الرومانى مع «أركاديوس قيصر». ثم ولَّى الإمبراطور شخصاً يُدعى «أُطروبيوس» الذى كان حاجب الدولة آنذاك.
وفى تلك المدة، حاول ملك الغُوطيِّين- الذى يَكِنّ عداوة شديدة وكراهية لأباطرة الدولة الرومانية- التقرب إلى «أركاديوس» ليكسِب وده وثقته إلى صفه ضد الإمبراطورية الغربية التى يريد مهاجمتها والانتقام منها. ونجحت مساعيه حتى جعله «أركاديوس» رئيس عموم الجيوش الرومانية على سواحل إيطاليا المشرقية. وحين استقر له الأمر وكسَب محبة جنوده، سار بجيوشه إلى روما ليقاتل قيصرها «هونوريوس». وهُزم القيصر هزيمة شديدة حتى كاد أن يحصُل على حكم الإمبراطورية، لكنّ القائد العسكرى الأمير «ستيليكو» أسرع بجمع جنوده، وحارب ملك الغُوطيِّين حرباً عنيفة حتى هزمه وأسر زوجته. أما الملك فقد هرب بعد أن تفرق جنوده عنه، ونجا الإمبراطور «هونوريوس» من هزيمته وفقدان حكم الإمبراطورية الغربية.
«أُطروبيوس»
ذكر عدد من المؤرخين أن مدة حكم «أركاديوس» امتلأت بالمتاعب والفساد والظلم، فقد عم الظلم جميع أنحاء المملكة بسبب ابتعاد المسؤولين آنذاك عن الحكم بالعدل، مع إهماله أمور البلاد وتدبير شؤون الرعية.
وكان بعد اغتيال «رُوفينيوس» مباشرة أن «أُطروبيوس» كبير الياوران ملَك زمام أمور الإمبراطورية، إذ كان يتمتع ببعض التأييد من الإمبراطور وزوجته. وبدأ عمله فى أيام الملك «ثيئودوسيوس»، ورتب بنجاح أمر زواج الإمبراطور «أركاديوس» من «أُودُكسيا». وكان منصبه يُبيح له تحديد من يمكنه أن يلتقى الإمبراطور أو يتحدث إليه.
ويتحدث معظم المصادر التاريخية عن «أُطروبيوس» بأسلوب سلبى، فمع أن ازدياد سلطته وقوته قُوبِلا بارتياح من بعض الرعية لأجل كراهيته الشديدة للغُوطيين أعداء الإمبراطورية، إلا أن الوضع لم يكُن كذلك مع حكماء الشعب لمعرفتهم بأمر فساده ومحبته للرشوة، وعدم اهتمامه بحقوق الإمبراطورية والبلاد، واستماعه للوِشاية والنميمة، وطمعه فى أخذ أموال ضرائب الدولة لنفسه. ولشدة فساده، اضطهد أمراء الجنود الذين عُرف عنهم الشرف والأمانة خَشية أن يقودوا الثورات ضد أفعاله المشينة.
وفى 399م، حصَل «أُطروبيوس» على لقب «قنصل»، ورُفع إلى مرتبة الأرستقراطيِّين فى الدولة لما أبداه من شجاعة فى مواجهة غزو «الهون» (HUN) للبلاد عام 398م. إلا أن عداء «جيناس» القائد الأعلى للجيوش الرومانية فى المشرق والإمبراطورة «أُودُكسيا» كانا سبباً فى سقوطه فى العام نفسه.
وقد ذكر بعض المصادر أن «أُطروبيوس» كان يُدرك كراهية الشعب الشديدة له بسبب قسوته، فدبر أمر استصدار مرسوم بأن من طعن فى ذات المَلك أو أهل ديوانه كان حكمه القتل. وقد كان لهذا المنشور أثر سلبى فى الشعب فثار ضده، وسرت الفتنة فى البلاد على أشُدها، حتى إن الرؤساء طلبوا إلى الإمبراطورة أن تطلب من «أركاديوس» أن يصدر أمراً بقتله حتى تهدأ الفتنة فى البلاد. ورفض القيصر طلبها أولاً، لكنها توسلت إليه حتى نفذ لها مطلبها. وما أن أمر القيصر بقتله حتى عمت الفرحة الرعية، وأسرعوا بالحضور من كل مكان إلى الميدان لرؤية تنفيذ حكم الموت فيه.
إلا أن «أُطروبيوس» التجأ إلى كاتدرائية «آجِيا صوفِيا»، فأنقذه «يوحنا الذهبى الفم» بطريرك القسطنطينية من الموت. ثم نُفى إلى جزيرة قبرص. وقد اختلفت الأقوال فى موته: فذكر البعض أنه قد حُكم عليه بالموت على يد حاكم قبرص، وتذكر مصادر أخرى أنه مع نهاية 399م، استُدعى وحوكم وحُكم عليه بالإعدام فى مدينة خَلقِيدُونِية.
«أُودُكسيا» تحكم البلاد (400 – 404م)
بعد موت «أُطروبيوس» مباشرة، ارتقى «أُورِيليانوس» إلى منصب حاكم المشرق. لكنّ «جيناس» نفاه بعد أن طالب «أركاديوس» بتسليمه. وبالرغم من عودة «أُورِيليانوس» بعد رحيل «جيناس»، إلا أنه كان قد فقد قدرته على التأثير فى الإمبراطور. وفى تلك الأثناء، كانت الإمبراطورة «أُودُكسيا» تعمل على تدعيم مكانتها ووضعها السياسى فى الحكومة. وفى 400م، أخذت لقب «أُغُسطا» واستطاعت أن تلعب دوراً كبيراً فى حكم البلاد. وقد ترك الإمبراطور «أركاديوس» حكم البلاد لقيادة زوجته «أُودُكسيا» التى ما أن أمسكت بزمام الأمور حتى استبدت بالحكم.
ومن أبرز مظاهر استبدادها، تلك البُغضة التى كانت تحملها تجاه بطريرك القسطنطينية «يوحنا الذهبى الفم»، فمع أن قلبها هى وزوجها الإمبراطور «أركاديوس» قد مال إلى محبته فى بادئ الأمر، إلا أن سرعان مع تحولت إلى كراهية شديدة حين رفض البطريرك بطشها فى إدارة حُكم البلاد وانتقد حياة الرفاهية التى تحياها هى وكثيرون من أصدقائها، حتى إنها دبرت عام 403م أمر نفيه من البلاد.
وما أن علِمت رعيته بقرار استبعاده منالقسطنطينية حتى ثاروا ضد الملكة وأحاطوا بالقصر مطالبين بعودة بطريركهم راعيهم. فلم تجد حلاً لتُوقف الفتنة فى البلاد إلا بأن تأمر بعودته فى الحال من منفاه، الذى استقبلته الجماهير عند عودته استقبالاً حافلاً. ولكنّ الخلاف العام بين الإمبراطورة والبطريرك لم ينتهِ حتى سعت إلى نفيه مرة أخرى فى 404م، فاستمر فى منفاه حتى وفاته.
وقد أدت تلك الأمور إلى حدوث فجوة بين «أركاديوس» وأخيه «هونوريوس» قيصر الغرب بسبب ما حدث للذهبى الفم. وما أن نُفِىَ البطريرك حتى حلت المصائب بالبلاد من تلف للمزروعات وزلازل، فاعتقد الناس أنه بسبب تعرض بطريركهم للظلم. ولم تنعم الإمبراطورة بالانتصار طويلاً إذ ماتت فى أكتوبر 404م.
أُنِثِيميوس (404 – 408م)
تُعد السنوات الأخيرة من حكم «أركاديوس» مدة سيطرة مطلقة للحاكم الإمبراطورى فى الشرق «أُنِثِيميوس»، إذ حاول العمل بجِد لحل سلسلة من الانتهاكات من قِبل الحكومة، وأمّن الشرق من الهجمات عليه، وعزز من أسوار مدينة القسطنطينية. وفى أثناء تلك المدة، لم يكُن للإمبراطور وجود، ولا بكونه رمزاً، على الساحة السياسية!
وقد مات «أركاديوس» فى 408م لأسباب غير معلومة تاركاً حكم الإمبراطورية الشرقية من بعده لابنه
«ثيئودوسيوس الثانى». وذكر البعض أنه أوصى قبل موته بأن يكون ملك الفرس هو الوصى على ابنه فى حكم البلاد! إلا أن وجود تلك الوصية رُفض من أغلبية المؤرخين مبررين رفضهم بأن كِسرى ملك فارس لم يطالب بالكفالة، ولم يدخل فى أمور البلاد، فلو كان الأمر صحيحاً ما كان يترك فرصة حكم إمبراطورية الشرق.
مصر خلال حكم «أركاديوس»
عندما تولى «أركاديوس» الحكم من بعد أبيه، سار على خُطواته وقراراته نفسها التى أصدرها فى مِصر بإغلاق جميع هياكل الأصنام فيها. كذلك أرسل قانوناً شديداً ليُنَّفذ فى البلاد المِصرية، وحثَّ المصريِّين على الطاعة تحت حكم الوُلاة. إلا أنه أباح فيما بعد بعض الأمور الدينية للوثنيِّين، كإذنه لهم بأن يُقيموا كُهّاناً لعبادة الشمس والبقر.
وكان آنذاك على رئاسة كرسى الإسكندرية البابا البطريرك «ثاؤفيلس» (الـ23 فى بطاركة الإسكندرية)، الذى قاوم الديانة الوثنية فى مِصر وتبِعه أساقفة مِصر فى ذلك. وفى أيامه اضمحلت الوثنية جداً حتى أُغلقت الهياكل والمعابد الوثنية فى البلاد المِصرية، مع ازدياد فى أعداد المسيحيِّين، حتى إن البابا طلب إلى الإمبراطور أن يقوم بتحويل تلك المعابد المهجورة إلى كنائس، وأذِن له. ولكنّ المسيحيِّين تعرضوا لغضب الوثنيِّين الباقين لمّا رأوا انتشار المسيحية فى رُبوع البلاد، فقتلوا عديداً من المسيحيِّين. وثار أهالى الإسكندرية على تلك الأعمال الوحشية، فقام الوثنيُّون بالتحصن فى «هيكل سِيرابيوم» محاولين تعذيب وقتل كل من استطاعوا الوصول إليه من المسيحيِّين.
ومع تفشى تلك الأمور، صدر أمر من الإمبراطور بهدم «هيكل سِيرابيوم» لِما يحدث فيه من أعمال عنف، وقتل، وتقديم لذبائح بشرية من المسيحيِّين إلى الآلهة الوثنية!! وما أن وصل الخبر إلى الوثنيِّين حتى فروا من الهيكل ليلاً.
وذكرت قصة أن أحد الجنود فى أثناء تهديم الهيكل الوثنى، قام بتحطيم صنم عظيم للشمس كان يُجِلّه المصريُّون معتقدين أنه إله الدنيا بأسرها بسبب صدور بعض الأصوات منه داخله، إلا أنه ما أن تحطم حتى خرجت منه مجموعة من الفئران، مما زاد من ضعف تلك العبادات وفشلها. وكان «أركاديوس» قد رد كل من نفاه الملك «ڤالِنس» من الأساقفة و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى