كنا تحدثنا عن حكم الإمبراطور «أركاديوس قيصر» الذى كان يسيطر على إدارة شؤون الإمبراطورية من خلاله كل من: «رُوفينيوس»، ثم «أُطروبيوس»، إلى أن استولت الإمبراطورة «أُودُكسيا» على الأمور، ومن بعدها «أُنِثِيميوس» الحاكم الإمبراطورى فى الشرق. وقد مات «أركاديوس» عام 408م تاركاً حكم الإمبراطورية الشرقية من بعده لابنه «ثيئودوسيوس الثانى».
«ثيئودوسيوس الثانى» (408- 450م)
هو الابن الأصغر للإمبراطور «أركاديوس»، ووُلد فى 401م، وتُوج «أُغسطساً» فى 402م! وعلى النقيض من حياة أبيه الإمبراطور «أركاديوس»، بدأ إعداد الأغسطس الصغير لواجبات الإمبراطورية، فنال التعليم الذى كان يقدَّم آنذاك للأباطرة بالإضافة إلى تعليمه أسس اللغة والبلاغة. وقد تعلم التحدث باللغتين اليونانية واللاتينية، مُظهراً رغبة وتعطشاً فى التعلم.
حكمه منفرداً
بدأ «ثيئودوسيوس الثانى» حكمه منفرداً فى 408م بعد موت أبيه، وكان له من العمر سبْع سنوات. وبحسَب القوانين الرومانية، كان يحق لعمه «هونوريوس» إمبراطور الغرب أن يكون وصياً عليه، إلا أن كبار رجال القسطنطينية رفضوا ذلك، وقرروا إسناد هذه المهمة إلى الحاكم الإمبراطورى فى الشرق «أُنِثِيميوس»، فقد كان غنياً، له معرفة وخبرة بأمور الحكم، كما كان مشهوداً له بالاستقامة والمعرفة.
وقد اهتم «أُنِثِيميوس» فى تلك الفترة بالعمل على إصلاح العلاقات بين الإمبراطورية فى الشرق وتلك التى فى الغرب، ففى 409م أُنشئت قنصليات بين الإمبراطوريتين، وأُرسلت أربعة آلاف من القوات بالقسطنطينية لمساعدة «هونوريوس» ضد أعدائه. ومع أن هذه الجهود لم تُسفر عنها ثمار واضحة، إلا أن التقارب بين الشرق والغرب كان أفضل حالاً منذ موت الإمبراطور «ثيئودسيوس الأول». واهتم «أُنِثِيميوس» اهتماماً بالغاً بتحصين مدينة القسطنطينية، خاصة بعد تعرضها لعديد من الإغارات والهجمات من الأعداء. ففى 413م، أكمل السور الدائرى الضخم، المشروع الهندسى الذى امتد إلى عدة أميال، وكان له سور داخلى يبلغ ارتفاعه ١٢ متراً، وسور خارجى فيه مئة برج، مع وجود فتحات دفاعية تمكِّن من إطلاق النار من سطح الحصن عند مهاجمة المدينة. ومازال معظم السور قائماً حتى يومنا هذا.
ولم تَطُل مدة كفالة «أُنِثِيميوس»، فقد ذكر بعض المؤرخين أنه فى 414م رغِب فى الانسحاب من إدارة أعمال الإمبراطورية ليحيا فى هدوء وراحة تاركاً أمر الوصاية إلى أخت الإمبراطور «بولِكيريا» التى كانت ترغب فى ممارسة الحكم. وذكر البعض الآخر أن «بولكيريا» قامت بعزله وأمسكت بزمام أمور البلاد. وقال قلة من الدارسين إنه من المحتمل أن يكون قد مات فى ذاك الوقت. وفى جميع الأحوال، فإن الأمور آلت إلى يد «بولِكيريا» خت الإمبراطور، التى نالت لقب «أُغسطس» فى ذاك العام نفسه.
«بولكيريا» تحكم
ذكر بعض المؤرخين عن «بولِكيريا»: «إنها الشخص الوحيد من بين أحفاد (ثيئودوسيوس الكبير)، الذى ورِث عنه روحه وقدراته» فقد أخذت عنه كرم الخلق، والشجاعة، والبراعة فى تدبير أمور الإمبراطورية. وقد ظهرت قوة شخصيتها من صباها، ففى 412م، وهى لاتزال فى الخامسة عشرة، أقنعت أخاها بإبعاد «أُنِثِيميوس» عن العمل، بحسَب بعض المصادر التاريخية. كذلك وضعت على عاتقها أمر تنشئة وتعليم أخيها الإمبراطور الصغير، فبذلت «بولِكيريا» الجُهد فى تهذيب أخلاق أخيها وتعليمه ليصبح قادراً على حكم البلد، فاهتمت بمتابعة تلقيه المعارف والعلوم الأخلاقية ومنها: العقيدة الأرثوذكسية، والعمل الخيرى، والزهد. هذا بجانب العلوم العامة التى أرسلت فى طلب كبار العلماء ومشاهير الحكمة لتنشئة أخيها عليها. كذلك فإنها ساعدته فى تعلم الأمور اللازمة له كإمبراطور، مثل: قدرته على التحكم فى المشاعر، ومعرفة كيفية الحصول على الانسجام النفسى، مع تعلم طريقة معاملة الوُزراء والمساعدين. وقد كان لدورها هذا أكبر الأثر فى شخصية الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى»، فمع قلة فطنته، إلا أنه كان مهيباً، وجاداً، ومشهوراً بالخلق والقناعة والرفق والرأفة والحِلم بسبب ما اكتسبه من صفات. وكان يشغله النقش والرسم والصيد، ولُقب بالخطّاط لحسن خطه. إلا أنه فى أمور
الحكم كان ميالاً إلى الكسل، حتى إن البعض ذكر عنه إهماله قراءة الأوراق التى يقدمونها إليه ليوقعها! وقد روى البعض أن «بولِكيريا» أرادت أن تلقنه درساً فى هذا الأمر، فوضعت له ذات يوم خطاباً ليوقعه وأخبرته أن فيه مصلحة البلاد، وكان مضمون الخطاب: «إنى خلعتُ نفسى عن المملكة، وخلعت بَيعتى من أعناق أهل البلاد». فما كان منه إلا أن وقعه دون أن يقرأ مضمونه، ولكنّ أخته أطلعته على الخطاب ومزقته أمامه بعد أن سألته أن يكون أكثر اهتماماً وتدقيقاً فى كل ما يقوم به من أعمال.
ويذكر المؤرخون أنها قد قامت بحمل أعباء المملكة بحماسة وجِد، وأحسنت تدبير أمور البلاد. كذلك شُهد لها بالعدل وكراهية الظلم، فتمكنت من إخماد الفتن فى البلاد، وحل المشكلات، فاطمأن لها الشعب وزادت ثقتهم بها، وانتظمت أمور البلاد، وانتهت المنازعات، حتى إن الرعية أحبتها
حباً شديداً. وقد اهتمت الإمبراطورة بالعلوم والفنون والصناعات، وكانت تجيد اللغتين اليونانية واللاتينية.
ولم يشغلها إلا إغارة الفرس الذين زحفوا على ممالك القسطنطينية فى المدة من 420- 422م، فقام الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى» على رأس جيوش الروم وتصدى لمَلكهم، وأوقف فتوحاته، وطرده من مقاطعات الإمبراطورية. وظلت الحرب بينهما حتى عُقدت معاهدة بينهما، واستطاع إبعادهم عن البلاد.
«أُودُكِيا»
فى عام 421م، عندما رأت «بولِكيريا» أن أخاها قد نجح فى أموره، بدأت تسعى للبحث عن زوجة له، وكانت تهتم بأن تجد لأخيها الإمبراطور زوجة تُشتهر بالفضيلة لا بالنسب. ويذكر أحد الكتاب أن أحد الفلاسفة الوثنيين فى مدينة أثينا آنذاك كانت له ابنة من أجمل بنات اليونان تُسمى «آثينا»، وكانت قد تلقت العلم والبلاغة عن أبيها، فامتازت بالخطابة والكتابة. وكان لها أخوان ترك لهما أبوها كل ما يملِك ولم يُوْرِثها هى شيئاً مكتفياً بجمالها. إلا أنه بعد موته، احتاجت إلى المال، وطلبت من أخويها فلم يقدما لها شيئاً فشكت أمرها إلى «بولِكيريا» التى أعجبت بها للطفها ورجاحة عقلها، حتى إن «بولكيريا» رأتها أهلاً لأن تكون زوجة لأخيها الإمبراطور. وحين سمِع بها الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى»، شُغل
بأمرها وأراد رؤيتها، فحضر متنكراً إلى أخته. وما أن رآها وسمِع حديثها حتى أحبها بشدة، وتزوجها بعد أن أصبحت مسيحية وتغير اسمها إلى «أُودُكِيا».
وحين علِم أخواها بأنها صارت زوجة الإمبراطور هربا خوفاً منها، إلا أنها بحثت عنهما حتى وجدتهما ومنحتهما المناصب العليا. ويذكر المؤرخون أن الإمبراطورة «أُودُكِيا» كانت عاقلة، واسعة الفكر، تهتم بالقراءة والدراسة حسب عادتها منذ صباها. وقد أضافت كتابات جديدة إلى رصيدها من الكتابات.
وبعد مدة من الزمان، تاقت نفس «أودُكِيا» إلى أن يكون فى يدها أمر حكم البلاد. إلا أن «بولِكيريا» رفضت أن تتنازل لها عن إدارة شؤون البلاد، ووقع الخلاف بين الاثنتين، ما أدى إلى انقسام رجال الدولة إلى حزبين: حزب يناصر الأخت، وحزب آخر يناصر الإمبراطورة. وبعد صراع غلب حزب الأخت «بولِكيريا» وملكت زمام الأمور. وبعد هذا، اتهمت الإمبراطورةَ «أودُكِيا» بخطيئة الزنى مع المتعصبين لها من العاملين بالديوان، وقد تأثر الإمبراطور بهذا فقام بنفيهم عن البلاد، وغضِب على زوجته وأساء الظن بها، فرحلت إلى القدس للاعتكاف هناك وخصومها يسعَون وراءها مضمرين لها الشر، ولٰكنها ظلت معتكفة فى القدس حتى ماتت فى عام 460م.
وقد لعِبت «بولكيريا» دوراً كبيراً فى المجمع المسكونى المنعقد فى أفسس عام 431م لمحاكمة نَسطوريوس، بطريرك القسطنطينية، الذى حاد عن الإيمان المسيحى السليم، حيث قام فيه البابا كيرلس الكبير- الـ24 من بابوات الإسكندرية الملقب «بعمود الدين»- بدور كبير انتهى بحرمان «نَسطوريوس». كذٰلك كان للبابا ديسقوروس الـ25 من بابوات الإسكندرية دور مهم فى الحفاظ على الإيمان فى مجمع أفسس الثانى عام 449م.
وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى… !
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى