بدأنا الحديث فى المقالة السابقة عن أ. د. «يحيى الجمل»: أحد الفقهاء الدُّستوريِّين البارزين فى «مِصر»، رمز مِصرىٌّ أصيلٌ، جمع بين القانون والأدب، وذكرنا محبته الجارفة لـ«مِصر» المتدفقة فى كتاباته وأحاديثه، داعيًا أبناءها باستمرار من أجل التكاتف والتوحد لإنقاذ الوطن وإعلاء شأنه، متسائلًا: «ما الذى ينقصنا للتوحد؟!»، فى محاولة منه أن يجد وسائل لمعالجة الفُرقة بأنواعها.
لقد ظل أ. د. «يحيى الجمل» رافضًا اليأس وأىَ مستقبل لا يليق بـ«مِصر» ومكانتها وعزتها، فكتب يقول: «إما أن يكون لـ(مِصر) موقع قَدَم فى عالم الغد هى تستحقه من غير شك، وإما أن التخلف سيكون هو نصيبنا كما كان فى الماضى، وذٰلك أمر لا نرجوه وأعتقد أننا لا نستحقه»، لقد آمن أن المِصريين ينتمون إلى شعب حضارىّ عريق، يستحق التطلع إلى بناء دولة قوية تساهم بدور عظيم فى الحضارة البشرية، فحمل فى قلبه وكلماته قَبَسًا من نور فى قادم أفضل، مرددًا: «ومع كل هذا الظلام الذى يخيّم، فإن فى (مِصر) خيرًا كثيرًا- بإذن الله». أمّا عن تعريفه لـ«السياسة»، فكان يحمل مفهومًا عميقًا لديه يرتبط بالوطن وأنها من أجله: «السياسة عندى يا صاحبى: نوع من الإحساس العميق بالمسؤولية تجاه هذا الوطن، الذى نَدُر من يفكر فيه وفى مصيره بصدق وإحساس بالمسؤولية!! السياسة، يا صاحبى: هى أن تحمل هموم الناس فوق رأسك. السياسة، يا صاحبى: أن تفكر فى هذا البلد».
لقد عكست كتاباته- وبخاصة التى قدّم فيها محطات من حياته- اقترابه الشديد من هُموم «مِصر» والمِصريِّين، فحمل فى أعماقه حُلمًا بمستقبل أكثر حرية ورخاءً وكرامة للبلاد، فاهتم كثيرًا بأن تملِك «مِصر» الثروة العلمية وتَزيدها، فكان صاحب فكرة اقتراحٍ أطلق عليه اسم «خِزانة المعرفة» ككِيان استشارىّ للسلطات التى تعمل لمنفعة البلاد، مؤمنًا بأن «القوة والتقدم الحقيقيَّين فى هذا العصر يقاسان بما يملِكه بلد من البلاد من الثروة العلمية»، وأن لدى «مِصر» من ثروات أبنائها العلمية كثيرًا، ولكن المشكلة «كما يذكرها هى: (كيف يعمل هٰؤلاء باعتبارهم فريقًا متناغمًا؟) عندئذ سيتحقق لـ(مِصر) عقلها الكبير، وستخطو (مِصر) خُطوات حقيقية نحو الأسلوب العلمى فى كل مناحى الحياة».
لقد أحب «مِصر»، وفى محبته أدرك أهمية تكاتف الجميع حين تعترضها المشكلات، فنادى: «… ولن نستطيع أن نواجه الواقع فرادَى، وإنما الظروف تقتضى أن نتكاتف جميعًا لإنقاذ (مِصر)… بجُهدنا جميعًا وبتكاتفنا جميعًا نستطيع أن نفعل شيئًا… إننى أتوجه إلى كل مِصرىّ ومِصرية، قائلًا: إننا لن نُنقذ (مِصر) إلا إذا تكاتفنا جميعا ووضعنا أيدينا فى أيدى بعض، وأخلصنا فى عملنا، وقدمنا ما نستطيع من جُهد ومال لكى نُنقذ سفينة الوطن من الغرق، لأنها إن غرقت، لا قدّر الله، غرقت بنا جميعا ولن ينجو من الهلاك أحد!!». وصاحَب محبته لـ«مِصر» إيمان عميق بالديمقراطية.
إيمانه بالديمقراطية
«الديمقراطية» من المبادئ التى مثلت جزءًا مهمًا فى شخصية د. «يحيى الجمل»، فكتب وتحدث واتخذ مواقف كثيرة، مدافعًا عن الحريات والدُّستور وكرامة المِصريِّين، وظل طوال حياته يقدر إرادة الشعب ويحترمها، مرددًا أن الشعب هو «صاحب السلطة والقرار».
وفى دفاعه عن الديمقراطية لم يتوقف عن انتقاد المواقف التى تصدُر من المسؤولين، دون النظر فى سلطاتهم، من أجل مصالح الوطن. وقد كانت له مواقف ضد تعديل «المادة ٧٦» من دُستور عام ١٩٧١م، والتعديلات الدُّستورية قبل «ثورة ٢٥ يناير». وفى كل مناسبة كان يُعلن مطالبته بالإصلاح، مع اختلاف الحقب السياسية التى شهدتها «مِصر».
وفى ظل إيمانه بالديمقراطية، نجده ينبرى مدافعًا عن «حق الآخر» فى: الوُجود، والتعبير، والحوار، والاختلاف، دون المساس بحرية أى إنسان أو كرامته، فيقول: «فى تقديرى أن أهم مقدمات ثقافة الحوار المنتج هى الاعتراف بالآخر، وأن هذا الآخر- أيًا كان- له مثل ما لى من حُقوق، وليس من حقى أن أصادر حقه قبل أن أسمعه. لكن، مع الأسف المرير، فإن «الآخر» فى بعض مجتمعاتنا يجرى إنكار حقوقه، بل وُجوده لمجرد الاختلاف فى المذهب السياسى أو الدينى أو الاثنين!! وهذه كارثة من الكوارث. لأن الناس خُلقوا مختلفين لكى يتعارفوا ويتآلفوا لا لكى يتصارعوا ويتقاتلوا. حقًا: تعالَوا نتعلم كيف نختلف، تعالوا نتعلم ثقافة الحوار المنتج».
محبة عميقة مع «البابا شنودة الثالث»
كان د. «يحيى الجمل» يعبر عن محبته العميقة لمثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث»، مرددًا دائمًا أنه: «من الضمانات الحقيقية ضد الفتنة والانحراف والتطرف»، أمّا عن المودة العميقة التى ربطت بينهما، فلا أجد أدق من كلماته المسطرة فى كتاباته، وفى بعض تصريحاته الصحفية، واصفًا عَلاقته الحميمة بـ«البابا شنودة الثالث»: «علاقتى بقداسة (البابا شنودة الثالث) قديمة وعميقة. قد لا يصدق كثيرون أننى، وأنا المسلم، أجد راحة كثيرة عندما أجلس إليه، وأشكو إليه بعض همّى، وأطلب منه الدعوات، وأحسّ أن كلماته ودعواته تتسرب إلى قلبى فى يسر عجيب»، «… وقد كتبتُ مقالةً قبل أكثر من أربعين عامًا بعُنوان: (عم ميخائيل)، الذى كان أشبه بأمين السر لمجموعة من القرى المتجاورة فى محافظة (المنوفية)، وكانت هذه المقالة هى بداية التفات قداسة الراحل (البابا شنودة) المعظّم إلى توجهاتى الفكرية، ثم قيام الصلة العميقة بين قداسته وبينى، تلك الصلة التى استمرت حتى آخر يوم فى حياة قداسته. وهى صلة يعرِفها كل من يعيش على أرض (مِصر)».
وقد توثقت تلك العَلاقة حين وافق أ. د. «يحيى الجمل» على رئاسة هيئة الدفاع عن «البابا شنودة»، حين أصدر الرئيس «السادات» قرارًا يلغى فيه القرار الجُمهورىّ السابق باعتماد انتخاب قداسته بطريركًا لـ«الكنيسة القبطية الأرثوذكسية»، وقد أراد قداسته الطعن على هذا القرار أمام القضاء، فيحدثنا عن تلك الواقعة د. «يحيى الجمل»: «… فجمع قداسته المستشارين القانونيِّين للكنيسة، وكان من بينهم أ. «حلمى راغب» وكيل (نقابة المحامين)- وهو من جيل سابق على جيلنا- وأخبرهم بأنه اختارنى لرئاسة هيئة الدفاع، فقالوا جميعًا لقداسته: نِعم من اخترتَ! مجاملةً منهم بطبيعة الحال»- إلا أن قداسة البابا شنودة الثالث كان قد ذكر لى شخصيًا أن أ. د. «يحيى الجمل» هو إنسان بالحقيقة يدافع عن الحق دون قيد أو شرط، ولم أجد رجلاً مثله فى زمانه- ويستكمل أ. د. «يحيى الجمل» كلماته فيقول: «وأضاف قداسته: أتعلمون أسباب اختيارى؟ إنها ثلاثة: أولًا: هذا رجل مسلم وأعرِف أنه عميق الإسلام وأنا رأس الٰكنيسة القبطية ومع ذٰلك قَبِل الدفاع عنى بغير تردد- هذه واحدة، الثانية: أنه كان وزيرًا مع الرئيس (السادات) وأنا أخاصم قرارًا أصدره (السادات)، والثالثة: أنا أعرف أن عَلاقته بأسرة الرئيس (السادات)- بعد وفاته- هى عَلاقة وثيقة جدًا ومع ذلك لم يتردد فى أن يدافع عن قضيتى. كانت هذه الحادثة هى بداية توثق العَلاقة. وزالت الغمة وعاد البابا إلى كرسىّ البطريركية. وتواصلت العَلاقة بغير انقطاع».
هكذا نشأت بينهما عَلاقة إنسانية عميقة ومحبة متبادلة، قال عنها: «أسمح لنفسى بأن أقول: (صديقى العزيز قداسة البابا شنودة)»، ويستكمل: «كنتُ فى زمن بابوية (البابا شنودة الثالث) أدخل دار البطريركية وعندى إحساس أنها دارى»! ووقت إجراء عملية جراحية له، كان المتنيح «البابا شنودة» فى «أمريكا» للعلاج، فما إن علِم قداسته أنه فى المستشفى حتى توجه لزيارته…. و… وعن… «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ