“العظماء وحدهم من يدركون قيمة السلام”. نعم، فعظمة الإنسان الحقيقية هي في إيمانه بالحياة والبناء والتآخي بين البشر جميعًا؛ البشر الذين يدركون أن “السلام” هو هبة من الله صانعه ومانحه، لكن: لمن؟ لمن يسعى للسلام ويجدّ في أثره، مدركًا أن فقدانه ما هو إلا الجحيم عينه! وحين نتحدث بالسلام، تشتاق القلوب إلى تلك الحياة الهادئة المسالمة التي لا تعرف إلا البناء، في وقت تستحضر العقول تلك الصور البشعة من موت وهدم ودمار تخلفه الحروب، وأُسر فقدت أعز من لديها!!! وهنا تحضرني كلمات الشاعر الأديب “جبران خليل جبران: “ستنتهي الحرب ويتصافح القادة. وتبقى تلك المرأة تنتظر ولدها الشهيد!”.
إن الحروب بين الشعوب التي شهِدها التاريخ قد خلفت وراءها ملايين من ضحايا عسكريين ومدنيين، وما تزال آثارها تأبى أن تنمحي من ذاكرة الواقع!! فها هي الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، ما تزال قابعة بمخلفاتها في ذاكرة التاريخ الإنسانيّ، بضحاياها من عسكريين ومدنيين قاربوا ٥٢ مليون نسمة!!! ناهينا بعشراتِ ملايين من الجرحى والمشوهين!!! لقد صدقت كلمات رئيس وزراء بريطانيا الأسبق William Gladstone: “الحرب مأساة: يستعمل فيها الإنسان أفضل ما لديه ليُلحق بنفسه أسوأ ما يصيبه!!!”. أما أشهر القادة العسكريين في التاريخ الحديث “نابليون بونابرت”، فلم يجد مفرًّا من أن يقول: “الحرب همجية منظمة مهما حاولت (هي) التنكر”.
ومع الحروب يتعرض الإنسان لسيل مشاعر مقلقة مؤرقة من عدم الأمان، تكتنفه وتضيِّق عليه لتصل به إلى ترهيبه بتهديد على وجوده في أية لحظة!!! وهنا أضع أمام البشر كلمات الرئيس الأمريكيّ الأسبق John Kennedy: “على الإنسانية أن تضع حدًّا للحرب وإلا فسوف تضع الحرب حدًّا للإنسانية”. على العالم أن يدرك أنه إن لم تتوقف الحروب، فلا محالة أن مصير كوكب الأرض سيؤول بمن عليه إلى دمار وفناء، وستنتهي حياة الكل؛ لكن لا يزال الاختيار لدى البشر إن أرادوا؛ يقول العالمAlbert Einstein: “لدينا القدرة على الاختيار: إما أن نُحرم الأسلحة الذرية، وإما أن نواجه الإبادة الشاملة … وكُتبنا المدرسية: تمجد الحروب وتخفي فظائعها وتغرس الكراهية في شرايين الأطفال!… وأنا أفضل تدريس السلام على تدريس الحرب، وتدريس الحب على تدريس الكراهية”. وقد وصف الكاتب الساخر Mark Twain الحرب: “قتل مجموعة من الأغراب الذين لا تشعر نحوهم بأي عداء!!! ولو قابلتهم في أحوال أخرى، لقدمت لهم العون أو طلبته منهم!!”. أما الكاتب Ernest Hemingway، فيقول: “لا تظن أبدًا أن الحرب، مهما كانت ضرورية ومهما كانت مبررة، ليست جريمة”، في حين يؤكد Leo Tolstoy مؤلف رواية «الحرب والسلام»: “إن الحرب التي تشُنها دولة لَتفسد الناس في عام واحد أكثر مما تفسدهم ملايين من جرائم النهب والقتل التي يرتكبها أفراد في ملايين من السنين!!!”.
إن دورنا في هذا العالم ورسالتنا هما السلام والبناء، رسالة المحبة، رسالة الإنسانية، رسالة اليد الممتدة إلى كل إنسان لترفع المعاناة عنه. إن علينا أن نختار طريق السلام الذي يؤدي إلى الحياة، لا سبيل الحرب. فكما ذكرت الكاتبة الأمريكية Ursula Le Guin: “في الحرب الكل أسرى”. نعم، الكل أسرى الموت، أسرى الكراهية والبغضاء، أسرى الإقصاء والعداء، في زمن يجب أن يتكاتف فيه البشر من اجتياز الأزمات والتحديات.
إن كلمات السيد المسيح: “طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ ٱللهِ يُدْعَوْنَ”، لتظل أصداؤها تتردد في أرجاء المسكونة كلها، لعلها تجد قلوبًا محبة للسلام، وأيدي تتشابك من أجل إقرار السلام، وعمل لا ينضب من أجل تحقيق السلام والابتعاد عن ويلات الحروب؛ وكما ذكر القرآن: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾.
نرفع قلوبنا إلى الله، ملك السلام وصانعه، في أعاليه، بالصلوات والطلبات والتضرعات، حتى ينزع معاناة كل إنسان يعيش ويلات الحرب، ويمُنّ بسلامه على منطقة الشرق الأوسط وسائر البقاع المتحاربة.
و…والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ